مالك حداد...في القلب
كلما جاء 2 جوان أتذكر ذهاب الكاتب الكبير الذي
ترك لنا بعض الروايات وبعض الدواوين الشعرية وبعض الكتابات الموزعة في كل مكان
وبعض الحكمة التي تنير الدرب حين الظلمة. في 1994 زرتُ بيته وكتبت نصا نشر باللغة
الفرنسية هذه ترجمة له والتقيت أخته "لويزة" رحمها الله وهي في الصورة
رفقتي ومعنا ابنها الشاعر الأستاذ الجامعي جمال علي خوجة. مرّ زمن طويل مذّاك.
هذا هو النص الذي يحكي الزيارة وتفاصيل حياة
الرجل الذي سحر الكثير من القراء بقدرته على اختصار لحظات الحياة وتكثيفها.
مالك حداد :
زمـن الإقامة في الكتـب
"إذا ما حدث و متّ يوما ما ..."
الأعمال / إميل سيوران
هذه كوة يطل منها على الوجد و الهمهمات، هذا بيته
يا الله كم يلزمنا من لون كي نرسم حزنه مشكاته زجاجته منقاره حيرة البلبل فيه دهشة
الزقزقات، لكن حين جئناه وجدنا لافتة تترجى لهفتنا: لا تكثروا الطرق على الباب
فأنا ما عدت أقيم هنا.
مدينة ليست كالمدن الأخرى. كاتب لا يشبه الكتاب
الآخرين. كان يقول أن لا مكان يحتويه أو يغريه للعيش على ربوعه ما عدا هذي المدينة.
اليوم، تسطع المدينة وتتباهى في غياب الرجل. هل كان يمكن أن تفعل لولا النسيان ؟ قسنطينة
ومالك حداد، عاشقان لم يمنحهما الزمن وقتا لترتيب الأحلام وأبجديات المنفى.
نحو عش الحمام
قررت في لحظة جنون / حب أن أسافر نحو كوة للضوء
تقودني إلى هناك حيث منزل مالك حداد، منزل في منزلة صاحبه ، يليق بمقامه البهي،
يتشبث بأعالي المدينة ليرى الحروف كالزهور حين تطلع من رحم الأرض دافئة مشرقة. رقم
الباب لا تشبهه سوى الأشياء المتفردة التي لا تتكرر. مدخل ثم باب ثم رواق ثم مطبخ ثم
غرف ثم قطط ثم حمائم ... سنفونية من الذكريات التي توشح ذاك الصباح الصيفي القائظ.
للأسف صاحب البيت غائب. كان يتقن فن الكلام والحكي
وكان صريحا حد النخاع. كان، كان. ما أصعب أن نتحدث عن مالك بفعل الماضي. الماضي
دوما ناقص. ينقصه مالك حداد.
الدخول إلى هذا المنزل كالاقتراب من صومعة تحرضنا
على نسج الكلام ومخاطبة الأثاث والصور والأقلام والكراريس التي ما زالت تقول أن
موت الرجل مجردُ إشاعة. الرجل الذي فتنته الكتابة فهي بالنسبة إليه "الإصغاء
و النظر. أفكاره يجدها أيضا في الشارع و عند الرجال" (ص24).
أبسط السيناريوهات: مالك حداد يجلس قبالتي في
هدوئه المعهود وابتسامته الحائرة. أسأله: لماذا تكتب يا سيدي؟ يجيبني بصوت صريح
/صادق / هش: "هذا بسيط ... لأنه لم يعد بمقدوري الكلام ..." (ص 38).
كان يكتب كثيرا و كتابته دوما موشحة بالموسيقى و
عامرة بالشعر. أسأله: ما الذي يعنيه الشعر لك؟ يبتسم ثم يلتفت إلى شيء غيري و
يقول: "كل ورقة نحرقها تذكـّرنا بالكرسي الذي ندخله تحت الطاولة، المحبرة
التي ندفع بها جانبا، الفكرة التي تتردد ثم تأتي، أثرٌ ما يداعبك، سيالة يجب
ملؤها، جملة نشطبها، ورقة ندعكها، عادة، فرحٌ، اسم، لقبٌ، الدرج الذي نغلقه،
المخطوطات التي نرتبها، الليل، النهار، الشعر. يا إلهي، الشعر" (ص 32).
بينه و بين الشعـر رابطة أسطورية / قصة حب تقتات
من الأسئلة الدائمة الانتفاض الممتدة في برزخ القلق. هنــــاك لا يخط شيئا دون أن
يأخذ جرعة من هذا السائل السحري المسمى "الشعر" الذي يمنحه تأشيرة إلى
عوالم أخرى و ينقله إلى حيث تشتهي اللغة إلى حيث تأخذ الكلمات مظهرا مستعصي
الترميم، حيث شفافية الأحلام تغدو جارحة، حيث النقاء يكفّ عن البقاء مجرد مبتغى، لأن
اللغة تصبح المنفى. لأن اللغة... لأنها.
ثوب الكتابـــــــــــــــــة
للرجل طقوسه في الكتابة. ينتظر بصبر حتى ينام
الجميع. يحضر بكل حب بعض الطعام الكثير التوابل، يسقي أزهار الحديقة، يطرد القطط،
يرتدي قندورة، يضع بعض الموسيقى الهادئة و يبدأ الرحلة في هيبة الورد / قامة
اللغة. قبل البدء في ترتيب أشياء الرواية و بناء نصها و تشكيل هندامها يقوم بكتابة
الكثير من الشعر. وحده يملك الأناقة التي
تمكنه من وضع الحروف في المكان اللائق بها وبجلالها وبهائها.
عند الصباح يستيقظ وكأنه يفعل ذلك لأول مرة
كالنبي القادم من مغامرة مضنية في أراضي قصية و يأخذ أوراقه بين يديه ثم يبدأ في
قراءة بعض مما كتبه لأمه. يا أمه التي يحبها. اسمها "حمامة". جميلة مثل
الحمائم التي تحلق في مرتفعات صخور الرمال. يا أمه النقية الصافية الصادقة. "كتبتُ دائما حتى أستحق أمي. هته التي تشبه
القصيدة ولا تنأى كثيرا عن الأسطورة" يقول مالك حداد.
أما مدينة قسنطينة فكان حين يعود إليها من سفر
طويل و قبل أن يفتح رزم السفر يسارع إلى الخارج، إلى حيث الدهشة بانتظاره. يتنقل
في شوارعها العريقة وأحيائها المرهم المداوي: سيدي الجليس، رحبة الصوف، السويقة،
سيدي بوعنابة... قال في لحظة اعتراف أن "الشمس لا يمكن أن تكون جميلة باسلة
سوى في قسنطينة" (ص 75).
علمه والده سليمان أن فرنسا ليست هي الوطن و لهذا
لم يُخفِ أبدا إعجابه بالعلامة ابن باديس بل ردد قائلا :"وطننا هو الجزائر و
بدون الإسلام لسنا نساوي شيئا". وهذا مصحفه، كان ينزعج جدا حين لا يلقاه في
مكانه داخل الخزانة.
الرمل حكمة المنفييـــــــــــــــــــن
من ثانوية أومال (ثانوية رضا حوحو اليوم) و شهادة
الباكالوريا، توجه إلى منطقة الطاسيلي بالصحراء كمدرّس لمدة سنتين، مبهورا بالصحراء
قال مالك: "ذهني مسكون دوما بتلك المعجزة العظيمة، موسيقى الرمل، سيادة السماء، الليل الذي لا يقف
في وجهه شيء، صمت الصحراء الملموس". عاد من مهمته و في كمّـه رواية "سأهديك
غزالة" والغزالة لا يمكن أن تكون غزالة إلا إذا كانت حية.
بعد زيجتين فاشلتين ومرحلة الخدمة العسكرية جاء
دور المنفى الذي انفتح أمامه متوحشا كالمتاهة.
"تدثر جيدا فالطقس باردٌ في المنفى" (ص 31) قالت له تلك التي تودّه فوق كل شيء: أمه التي
رافقته بنظراتها حتى اختفى خلف سياج الحزن العالي. في حقيبته الفارغة حمل كراسا
مدرسيا، بعض الأقلام و حزمة من الأحلام و نزل بشوارع باريس وهذا زمن الوحدة لأن
السفر لم يكن نحو الخارج أبدا. كان رحلة داخل الذات المكلومة / الموبوءة بداء
الكتابة / الألم / السلاح الوحيد ضد الرداءة (كما يقول الفيلسوف إيميل سيوران).
غدت الكتابة للرجل ضربا من ضروب المشاركة الوجدانية
التي سمحت له بالتخلص من القلق الذي يبتزه في الصباحات الباهتة / الرمادية في
منفاه التي تنقل إليه أنباء الأصدقاء الذين يفقدهم واحدا تلو الآخر في لهيب الحرب
الدائرة هناك في الوطن القلب.
سيجارة أو ما تبقى منها يحرق شفته و هو يبتسم و
يقول : هل تريد حقا أن تعرف؟ "المنفى. هو عادة سيئة نتعود عليها. المنفى هو
مثلا شارع مادام، الأضواء التي تطفأ، طول الليل، الحزن الباهت للنزل، صوت المفتاح
في ارتطامه بالمثلث النحاسي المذهب الذي يحمل رقم غرفة النزل. المنفى يتقلص إلى
حجم رقم حقير" (ص16).
شخصيات رواياته حقيقية مثل "سيمون قج"
و "رولان دخان" و "وريدة"، صديقان حميمان وامرأة / نافذة ظلت
مغلقة رغم طرقه الكثير. المرأة التي أحبها فوق كل الكيانات لم تنتظر أبدا انتهاء
الرواية بل خانته في أول الطريق. في بداية الرحلة / فاتحة النبض.
في الكتابة تغدو المرأة وطنا و قد لا نجد في
الوطن عشا يأوينا. الكتابة نبوءة العاشقين / جرح الكينونة للذات المتعبة.
لما تتزوج وريدة، تلك التي أحب، ازداد تعلقه بها
و ظل يكتب لها أجمل الأشعار والنصوص. "هي أيضا وريدة تلك التي أتت في صبيحة
مضاءة، بعيدا هناك في اتجاه جبل وريدة. حين تسقط حبيبات البلوط الخضراء تحت وقع
الرياح الخريفية و تغدو سحابة دخان تسافر فوق سطح أي بيت حكاية حب. عالمي بسيط
يتمثل في وجود وريدة و كل ما عداها لا يهمني. لا وجود لما عداها. إنها كلُّ
شيء" (مقطع من رواية غير منتهية عنوانها - وريدة -".
المرأة نص مفتوح ينتظر القراءة و اليد العاشقة
القادرة على مداعبة نكهته الفاتنة. مالك يعرف الحكاية جيدا حين يختصرها بقوله: "الشعر.
كل ما في المرأة شعر و الخسران للجاهلين" (ص 12).
رقصة الشفــــــق
بعد انتهاء مغامرة المنفى والعودة إلى أرض الوطن
وجد شاعرنا نفسه قبالة منفى آخر يتجلى في استبدادين وافري الحضور وهما البطالة والتعسف
السياسي فكتب:
عمري ستة عشر حين تمطر
تخاف المدينة من الغرباء
تسكن إلى عاداتها
أمشي
أتسكع
لي أغنية سأغنيها
أنا قارة تحلم بالضياع ...
جاء عليها الدور وفضلت وريدة المنفى وبقي مالك
وفيا لأرضه وللصدى الذي يتسلق أسوار مدينته عند كل مساء. بعد وفاة أبويه تزوج من
جديد كي يوشوش لنفسه أن الحياة هواية جميلة/ هوية العاشقين. وجد نفسه وحيدا قبالة
عالم من الخيانات والهشاشات والنفاق والمرارة. ولى عصر الأحلام و جاء زمن ذاك
الشيء اللا مبالي الذي قلبه من حديد وذاكرته من حجر.
مالك مخلوق ليلي مدخن مدمن يستهلك الكثير من
الشاي. يكتب و هو يئن و لا يطلب شفقة حين يبصق الدم من رئتيه / ومعه يبصق بقايا
القطع المرة من مجتمع منكمش بائس يجر آلهته نحو الهاوية. بقايا كان يجب أن يتخلص
منها. كان يعلم تماما ما يفعل: "أنا الآن أقيم في كتبي وصدقيني إذا ما قلت لكِ
أنني أدفع الإيجار غاليا، غاليا جدا" (ص 95-96).
وهل لنا أن ندخل الأسطورة بيدين خاليتين من أيما خدش؟
مالك مريض و يعاني كثيرا. يؤلمه ظهره وأثبتت
الأشعة أن برئتيه يسكن سرطان خبيث. لنتذكر أن الدكتور كاست أحد شخصيات روايته
"التلميذ والدرس" مات بفعل السرطان. هل كان ذلك بمثابة نبوءة ؟
حُـلم قلب معنّى لكائن انتهى منذ مدة. كانت وريدة
المرأة / الجرح / اللايقين. أول برقية تعزية كانت تحمل اسمها. هل بَكتْ ؟
رحل الرجل وأخذ معه كل رموزه البسيطة الواضحة. كلماته
/ الوصية متواضعة صافية، أمنيته أن يُدفن بجبل الوحش وأن يكتب على الشاهدة "هنا
يرتاح مالك حداد" (ici SE REPOSE Malek Haddad). لا يرقد الشاعـر في أرض
تشع بالكلام الحافل بالأغاني الوافرة التمني. كانت للحلم
بقية. زهية زوجته رحمها الله وابنهما نديم ما زال يقول ما بقي عالقا في الحلق من
أغنيات.
في 02 جوان 1978 انسحب سيد الكلمات من عالمنا بكل
رفق، تسلل بهدوء كالظل فوق الحشيش تاركا وراءه قصيدة لها رنين الأبدية:
ليس لي سوى الأغاني
للذي يقيدونه
لليد التي يرفضونْ
للنهار الذي يتهمونْ
ليس لي سوى الأغاني
للقمح الذي يدوسونْ
لليل الذي يبهدلونْ
للحمامة التي في حداد
على شجرة الزيتون المحروقة
لكني أعلمُ أن مقطعا من أغنية
قد يكون طيب الأثر
هات يدكَ
تعال ...
قبل
مغادرة بيت مالك حداد، خصتني وصديقي سليم بوفنداسة أخته لويزة (رحمها الله) بأحسن
الهدايا وأثمنها قائلة: "يجب أن تأكلا معنا
"البوزلوف" (رأس الغنم المشوي). فقد كان الأكلة المفضلة لدى مالك".
عبد
السلام يخلف / جامعة قسنطينة 1994
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire